قصتي مع مشروع خط المصحف الشريف :
الدكتور الخطاط روضان بهية استاذ الخط العربي والتصميم الطباعي في كلية الفنون الجميلة / جامعة بغداد.
لقد كان من أهم المفاجآت السعيدة التي تحققت لي في يوم افتتاح مهرجان بغداد العالمي الأول للخط العربي والزخرفة الإسلامية بتأريخ 24/ 4 / 1988، هو ليس فقط حصولي على الجائزة الاولى للمهرجان وإنما كذلك لقائي لأول مرة بالأستاذ الكبيرالفنان العراقي ناظم رمزي (رحمه الله)، فبالرغم من أنني لم ألتقِه سابقا ولم اتعرف عليه بشكل مباشرفي يوم من الأيام ، إلا أنني كنت أعرف عنه وعن إبداعاته الراقية في مجال التصميم الطباعي وفن الرسم واحترافه التصوير الفوتوغرافي فضلا عن أنه كان من الأعلام المتميزين في مجال الطباعة الممتازة في العراق ولاحقا في لندن ، كما أنه كان مصمما بارعا للفونتات الطباعية التي كان يوظفها في مشروعاته في مجال النشر الطباعي .
لازلت أذكر جيدا كيف أن قاعات دائرة الفنون التابعة الى وزارة الثقافة قد اكتظت بالجمهور فضلا عن المشاركين من الخطاطين عند بدء افتتاح المهرجان ، وأذكر أن أستاذي الفنان النحات المرحوم (اسماعيل فتاح الترك) الذي حضر افتتاح المهرجان قد رآني وأنا أمر بقربه فأخبرني أن الأستاذ ناظم رمزي يبحث عني ، فقلت له : لكنني لم أره سابقا فكيف أميّزه ؟ ، وإذا بالأستاذ اسماعيل يشير إليه وقد كان ينزل على الدرج المكتظ بالجمهور ، فطلب مني أن أذهب إليه وأعرّفه بنفسي ، وفعلا توجهت إليه وسلّمت عليه , وقلت له : أنا روضان ، فبادرني بلهجة مرحّبة وقال : (عزيزي روضان لدي مشروع خط المصحف ، وقد وقع اختياري عليك ، ولا أستطيع أن أشرح لك الآن تفاصيل المشروع بسبب الزحام ، ولكن تعال الى منزلي غدا لنتدارس الموضوع بهدوء وروية) .
وفعلا اتجهت إلى منزله في منطقة المنصور ببغداد بعد أن وصف لي موقعه ، وقد وجدت أن أثاث البيت -لاسيما الأرائك- مغطّاة بقطع قماش بيضاء لأنه غير مأهول من قبل العائلة التي غادرت العراق بمعيّته الى لندن بعد سنة 1986.
بدأ الأستاذ رمزي يشرح لي أبعاد المشروع , وقد فرش أمامي نماذج ومخططات عديدة كان قد أعدّها في مشغله بلندن , وطلب مني أن أعدّ له أنموذجا في ضوء أحد المخططات , فطلبت منه أن يمهلني ثلاثة أيام ثم عرضته عليه فأخذ يتأمّله ورأيت على وجهه علامات الرضا ، ، ثمّ تمّ الإتفاق على آلية إرسال الصفحات تباعا , وقد استعان ببعض أصدقائه ممن يأتون الى بغداد ويرجعون الى لندن ، فكان أحدهم إذا قدم الى بغداد يتصل بي تلفونيا لأسلّمه ما هو منجز من صفحات حيث يوصلها الى الأستاذ رمزي ، وهكذا تكرر الحال مرارا ..
ثم إن الأستاذ رمزي (رحمه الله) كلّف السيد ابو غزوان (عبد السلام فرنسي ججو) وهو صاحب (شركة الزينة لصناعة مستحضرات التجميل) في بغداد ليكون وسيطا بيننا حيث أسلّمه الصفحات المنجزة فيقوم باستنساخها لي ثم يتولى إرسالها الى الأستاذ رمزي ، واستمر الامر على هذا الحال حتى انتهاء العمل عندي تماما .
لاشك أن العمل بخط هذا المصحف الشريف قد تطلب مني جهدا كبيرا وتركيزا عاليا وصبرا ومطاولة لعدة أسباب منها :
- أنه كُتِبَ بخطي الثلث والنسخ .
- بموجب التصميم الذي أعدّه الأستاذ رمزي كان المطلوب أن تنتهي كل صفحة من صفحات المصحف الشريف بنهاية آية ، ولا يجوز أن تقطع الآية وتكمل في الصفحة اللاحقة ، مما كان يتطلب مني أن أقوم بتوزيع الآيات التي تتضمنها كل صفحة بقلم الرصاص قبل تنفيذها بالحبر .
- لقد تزامن تكليفي بخط المصحف خلال المدّة التي كنت أعكف فيها على كتابة بحثي العلمي لنيل درجة الماجستير في اختصاص التصميم الطباعي ، وقد كانت إجراءات البحث تتطلب مني جمع المصادر والإطّلاع عليها , واستخلاص المعلومات التي تعزز مسار البحث وتحليل الزخارف بعد تصويرها وفرز مكوّناتها ، فضلا عن الرسوم والمخططات التي تربو على (482) شكلا رسمتها جميعا بيدي مما تطلب مني وقتا طويلا .
- لقد كان الاتفاق مع الاستاذ المرحوم ناظم رمزي على بدء العمل بتاريخ 7 / 11 / 1988 م في بغداد ، وفرغت من خط المصحف كاملا يوم الخميس 31 / 3 / 1994 م الموافق 19 شوال / 1414 هـ ، إذ استغرق العمل بالمصحف (5) سنوات (3) أشهر ، فضلا عن (13) يوما إضافيا كتبت فيها صفحات التعريف بهذا المصحف الشريف ومستتبعات أخرى ، إذ فرغت منها يوم الجمعة 15 / 4 / 1994 م .
لابدّ من الإشارة إلى أن فكرة إصدار مصحف مزيّن بالكامل بزخارف متنوعة ومكتوب بخطي الثلث والنسخ كانت بالأساس وبالتنفيذ للزخارف وتصميم الصفحات من قبل الفنان العراقي الكبير المرحوم ناظم رمزي ، وقد استغرق ــ بعد إنجاز الخط من قبلي ــ قرابة (12) عاما لإكمال التصاميم والزخارف والتدقيق ، إلا أن الفنان رمزي عانى بعدها من أزمة قلبيّة أدّت إلى وفاته (رحمه الله ) بالنهاية , ولم تمهله لإنجاز طباعته للأسف الشديد .
يقول الأستاذ المرحوم ناظم رمزي في مقدمة الكتاب الذي أصدره للتعريف بمشروع هذا المصحف الذي أسماه (المصحف الرمز) : ( لقد اختمرت فكرة تصميم جديد للقرآن الكريم ، بعد فراغي من إنجاز مصحف (روزبهان) للخطاط محمد بن نعيم الطبعي، والذي عهدت شركة “دانيا دزاين في لندن” إلى مكتبي لفرز ألوانه).
ثم يتحدث في المقدمة كذلك عن مراحل التحضير والمباشرة بالعمل للمصحف الجديد ، فيقول : (تم الإتّفاق عام (1988م) مع الأخ الدكتور عبد الرضا بهيّة (روضان) رئيس جمعية الخطّاطين العراقيين في بغداد ، وأستاذ الخط في كليّة الفنون الجميلة ، على المباشرة بخط المصحف الكريم وفق المصحف المطبوع في مطبعة الأزهر، والذي أهداه لي مشكورا أحد شيوخ مجمع البحوث في الأزهر وطلب مني أن أقتدي به . وهذا ما حصل ، كُتِبَ ” المصحف الرمز” على هدى الطبعة السابعة عام(1987م) ، للمصحف المطبوع في مطبعة الأزهر الرسميّة .
وقد تمت – بعد مراجعته وتدقيقه – الموافقة على طبعه ، كما جاء ذلك في كتاب مجمع البحوث الإسلاميّة في الأزهر الشريف المؤرخ في 21 / 10 / 2001 ، والمنشورة صورته على الصفحة 46 ، والذي سار على هداه المصحف الرمز ، والتزم بما جاء فيه ) .
وفيما يتعلق بتصاميمه وزخارفه يقول الاستاذ المرحوم رمزي بمقدّمة الكتاب كذلك : (اعتمدتُ في تزيين صفحات القرآن الكريم على الزخارف الإسلامية النباتية ، وعلى ما حفلت به الزخارف القديمة للقرآن الكريم والنسيج الزخرفي والمسطحات الإسلامية والكتب التراثية , وذلك بمسعى للخروج منها إلى ما يؤكّد أصالتها من ناحية ، وإلى تطويرها من ناحية ثانية ، بحيث تبقى الأصالة التراثية ماثلة للعيان ويبقى للتجديد مسعاه ، بما لا يخرج به على التقاليد الفنيّة المتوارثة .
قُسّمت الصفحة إلى ثلاثة مستطيلات ، يحتوي الأوّل على ثلاثة أسطر بخط النسخ ، والثاني ثلاثة أسطر بخط الثلث ، والثالث خمسة أسطر بخط النسخ كذلك . وتمتد على هذه الصورة لكافة الصفحات ، عدا صفحات السور التي لأغلبها تصميم مختلف .
إن تصميم الصفحة على هذه الصورة ، يقتضي أن يكون الخطاط على قدر كبير من المهارة ، لتقسيم الكلمات على المستطيلات ، وإنهاء الصفحة بنهاية آية ) .
وختاما أود الإشارة إلى أن جميع الصفحات الأصلية للمصحف الكريم الذي تشرفت بخطّه لازالت بحوزة عائلة الأستاذ المرحوم ناظم رمزي في لندن ، ولا أحتفظ سوى بصفحات مستنسخة ، ونماذج ملوّنة أرسلها لي لغرض الإطّلاع على صورة المصحف فيما لو تمت طباعته ونشره .