هم علماء ونحن علماء .
-
الشيخ الدكتور باسم دخيل العابدي.
- 13- 2 – 2024.
اتفقنا مع ابي حنيفة أو لم نتفق معه فهو أحد العلماء وأصحاب المذاهب الفقهية إلا أن هذه الصفة – كونه عالما- لم تشفع له وتجعله بمنأى عن النقد بعد أن قال عن التابعين وفي مقام التحقيق العلمي والإجتهاد : (همْ رجالٌ ونحنُ رجالٌ) ؛ ولم يمر قوله على الأقران دون حساب ؛ ولم تسكت عنه الأقلام وجعلوا قوله هذا مثلبة عليه , وسببا لنقده لأن أبا حنيفة- على مكانته- لايمتلك الأهليّة لمقارعة رعيل التابعين على وفق مباني منتقديه.
ولمّا قال أبو العلاء المعريّ في لحظة حماس وزهو وغرور:
وإنّي وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل.
اعترضه غلام وقال له: أأنت القائل هذا البيت؟
فقال أبو العلاء: نعم. فقال له الغلام، فإن العرب قد جاءت بثمانية وعشرين حرفًا فزد عليها إن كنتَ صادقًا، وأتِ بالحرف التاسع والعشرين. فبُهت أبو العلاء وحار ؛ ولم يعرف كيف وبماذا يجيب!.
وعندما تظاهر القضاة في ألمانيا وطالبوا المستشارة أنجيلا ميركل بمساواة رواتبهم بالمعلمين ردّت بقولها: (كيف أساويكم بمن علموكم؟).
أما مناسبة ذكر هذه الصور فهي ما نراه من استهانة بعضهم بالعلم ؛ وازدياد مدعيه ؛ واستسهال القول فيه ؛ والتطاول على العلماء ؛ والرد عليهم ؛ وإطلاق الآراء الإستحسانية والحماسية والذوقية في مقابل آرائهم المؤصلة والمحررة علميا وأصوليا ولغويا ودلاليا ؛ وتحضرني في هذا المقام قصيدة جميلة للشاعر السوري حسام الدين جلول ؛ يقول في بعض أبياتها:
الكلّ في هذي الديار مدرس …….. والكل فيها شاعر وأديب.
والكل في علم الحديث محدث…… والكل في علم الكلام خطيب.
والفقه عند الناس أمر هين ………..فالكل يفتي دائما ويصيب.
قد يشكل على هذه الرؤية بأنها دعوة لإغلاق نوافذ التفكير , وسد باب الإجتهاد , ووضع الأحجار في طريق الابتكار والإكتشاف ؛
وانها ترويج لفكرة تقديس العلماء القدامى ؛ والقول بعصمة أقوالهم وعدم ورود النقص عليهم.
إلا إن هذا الإشكال واضح البطلان والإنتفاء فلاتوجد مساحة عقلائية تسيغ هذا الفهم لتسالم العوام والخواص على أن النقص من لوازم غير المعصومين؛ وبقليل من الجهد في تتبّع بحوث العلماء في العلوم المختلفة يظهر مقدار النقد والنقد المضاد والنقض على العلماء ( ويلزم أن نضع خطا تحت جملة (بحوث العلماء).
لان محور الإشكالية المعاصرة ليس النقد العلمي وليس الابتكار العلمي وليس التفكير العلمي ؛ والإشكالية المعاصرة ليست حدوث أزمة في مناقشة العلماء والاعتراض عليهم إذا كان الرد والنقاش والإعتراض يأتي على وفق المباني الأصولية والضوابط العلمية والأدلة المنطقية ؛ فالممنوع والمحرم والإشكال والأزمة هي الثرثرة العلمية ؛ والأجتهاد المتكئ على الفراغات المعرفية والأوهام العلمية والخسوف الثقافي والكسوف الفكري.
فاستبدال مصطلح أصّله العلماء ؛ أو تخطئتهم جزافا من دون مناسبات موضوعية وعقلائية ومنطقية ولغوية ؛ ودون توافر المنتقد على ملكة استنباط ؛ وتحصّله على دربة في النفوذ الى أعماق المسائل العلمية وتحليلها وفهم تشعباتها وما تتاثر به من عوامل من داخل النص ومن خارجه يعد جرأة من بعض الدارسين ممن لم ينبت ريش المعرفة على أجنحتهم , فهم – ولمجرد حصولهم على قدر فقير من المعلومات المبعثرة وغير المنتظمة او المنضبطة بضابط الدرس والتحصيل المنهجي ؛وحفظهم لبعض المصطلحات – توهموا أن هذا القدر من المعلومات كاف لمخالفة العلماء ومسوغ لمعارضتهم ومؤهل لنديتهم.
نعم . لا توجد آية تحبس العقل عن التفكير والإبداع , ولا توجد رواية تمنع الإنسان من العلم والفقاهة وإنتاج المعرفة وتوليد الفكر ؛ ولا توجد دراية تسجن الباحث في قفص الإتهام بالهرطقة ومحاربة الله.
فالآية والدراية والرواية والعقل وسيرة العقلاء وسيرة المتشرعة والعرف كلها تقول بالجواز ولكن بشرطها وشروطها , ومن شروطها أن يمتلك الراد على العلماء أدوات معرفيّة صالحة وعميقة يتمكن عن طريقها فهم الدليل ؛ ويتحصل على القواعد العلمية المحكمة التي يوظفها في إثبات نظرياته وآرائه , ويدحض بها نظريات العلماء وأقوالهم ؛ ويتوصل عن طريقها الى نتائج علمية متوازنة تابعة للدليل العقلي أو النقلي ؛
أمّا خلاف ذلك فسوف يكون ممن قال الرسول صلى الله عليه وآله فيهم: ( إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيقهون) ( الشريف الرضي: المجازات النبوية: ١٩٠).
وتكون أقواله واعتراضاته ومدّعاياته من ( النط) فينسب حينها الى( النطّاطين) على وفق أهل اللغة ؛ فهو ينط على العلم وليس من أهله .
ويكون فعله من ( التطفر ) العلمي والثقافي والاخلاقي الذي انتقدته البصري نائل المظفر في قصيدة شعبية أقتبس منها قوله : ( آني ضد هذا التطفّّر)!
ماتفرزه المنصات الإعلامية وحلقات الدروس لبعض المتعاطين بالتدريس في الأوساط العلمية والقرآنية على وجه الخصوص يضج بهذه الأنماط والظواهر الهجينة ؛ فما إن تنبّه أحدهم بعد تلاعبه بأحد المصطلحات المحققة والمدققة من قبل العلماء , وتقول له : إن كبار العلماء تسالموا على هذا المصطلح أو هذه المسألة وحرروها علميا حتى ينبري لك وقد أخذته العزة بالغرور ويرد بعلو: ( هم علماء ونحن علماء ) مع أنه لم يكمل دورة خلاصة منطق المظفر ! ولم يفرغ من دراسة حلقة أصول الشهيد الصدر الأولى ! ولم يقرأ الآجرومية أو قطر الندى في العربية.
عصمنا الله من الزلل ورزقنا العلم النافع المقرون بالتواضع.