واقع.
28 شعبان 1445
10 آذار 2024
من البناء اللغوي القرآني– الأستاذ عادل الشويلي
دلالة التعبير عن الزمن الماضي
في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 4] إذ ورد هذا التعبير القرآني من قصة النبي موسى (عليه السلام) وفيه سرد لإحداث ماضية، نقلت لنا صورة عن استعلاء فرعون وتجبّره واستكباره وبغيه، وقد دلت الأفعال المضارعة (يستضعفُ، يذبّحُ، يستحيي) على الزمن الماضي في سياق الآية المباركة؛ لأنها احداث حصلت في الزمن الماضي، كان فرعون يفعلها ببني إسرائيل من استعبادهم واستعمالهم في الاعمال الشاقة، وقتل أبنائهم واستبقاء بناتهم.
وعلى هذا يتضح الاعجاز القرآني في بناء السياق اللغوي للقصص القرآني من خلال انزياح هذه الأفعال المضارعة عن دلالتها الزمنية المتمثلة بالحاضر أو المستقبل الى الزمن الماضي، الدال على تحقق الحدث وانقضائه، أي بمعنى: تحقق وانقضاء كل ما كان يفعله فرعون ببني إسرائيل من تلك الأفعال الشنيعة.
وفي قوله تعالى من قصة النبي سليمان (عليه السلام): ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾ [البقرة: 102]، فقد وقع الفعل المضارع (تتلو) في خبر المتقدّم وهو الماضي، لذا حمل دلالة الزمن الماضي في سياق الاية المباركة؛ كونه ” حكاية حال ماضية “؛ لذا ذُكِرَ الماضي بلفظ المستقبل أي: ما تلته الشياطين، كما قال الثعالبي (ت:429هـ) ، وقد ذكر الطبرسي (ت:548هـ) إنّ في قوله تعالى: ((ما تتلو)) وجهان: الاول أن تكون (تتلو) بمعنى (تلت)، وقال: انما جاز ذلك لِما عُلِم من اتصال الكلام بعهد سيدنا سليمان (عليه السلام)، فدل ّذلك على أنّ مثال المضارع أُريد به الماضي، مستنداً الى قول سيبويه: قد تقع (يفعل) في موضع (فعل) ، والوجه الثاني ان ( تتلو) حكاية حال وإن كان ماضيا كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: 49]، فيسومونكم حكاية للحال في الوقت الذي كانت فيه، وإن كان آل فرعون غير موجودين في وقت هذا الخطاب، ويرى الباحث ـــ زيادة عمّا ذُكر ـــ أنّ دلالةَ الفعلِ المضارعِ (تتلو) على الزمنِ الماضي في ضوءِ سياقِ الآيةِ المباركةِ هو؛ لتَحَقُقِ الحدثِ وانقضائِهِ من خلالِ استعمالِ الفعلِ الماضي (اتبعوا) العاملِ في المصدرِ المؤولِ من (ما) والفعلِ المضارعِ (تتلوا) اي: اتبعوا تلاوةَ الشياطينِ، وقد اوضحَ ابو حيانَ (ت:745هـ) أنّ الذي تَلتْهُ الشياطينُ: ” هُوَ الْكَذِبُ الَّذِي تُضِيفُهُ إِلَى مَا تَسْتَرِقُ مِنْ أَخْبَارِ السَّمَاءِ، وَأَضَافُوا ذَلِكَ إِلَى سُلَيْمَانَ تَفْخِيمًا لِشَأْنِ مَا يَتْلُونَهُ “.
وفي قوله تعالى من قصة اصحاب الفيل: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ 0 أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ 0 وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ 0 تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ 0 فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾ [الفيل: 1 – 5]، إذ نلحظ صيغة الفعل المضارع (ترى، يجعل) وهي تتفاعل مع القرائن اللفظية داخل سياق الآية المباركة، فقد خرج الفعل المضارع عن دلالته الزمنية من الحال أو الاستقبال الى الزمن الماضي بدلالة اقترانه ﺑ(لم) الجازمة التي قلبت معناه الى الماضي، ودلالة الاستفهامِ التقريري الذي افاد حملَ المخاطبِ على الاقرارِ بما يقولُ المتكلمُ (الله سبحانه وتعالى) عن تلكَ الاحداثِ، وكأنَّ المتلقي عاش المشهد القصصي الذي يصوّر عقاب الله تعالى الذي حلّ باصحاب الفيل (ابرهة وجنوده) الذين جاؤوا لازالة الكعبة وتغيير مكانها، فاهلكهم الله تعالى وجعل كيدهم في تضليل، إذ أنّ هذه الاحداث وقعت في الماضي وأصبحت اخبارا تتناقلها الأجيال، ونحو ذلك قوله تعالى من قصة النبي موسى (عليه السلام): ﴿ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴾ [الشعراء: 18]، إذ جاء هذا التعبير القرآني عن لسان فرعون في معرض إظهار اِمتنانه على سيدنا موسى (عليه السلام) فيما كان من امر نشأته (عليه السلام)، ومكثه في قصره، وكأنّ فرعون أراد من تذكير سيدنا موسى بما مضى من نعمته عليه أن يصرفه عن إمضاء دعوته، وهذا يتفق مع دلالة سياق هذه الآية المباركة على الزمن الماضي من خلال اداة الجزم ( لم ) الداخلة على صيغة المضارع ((نُرَبِّكَ)) التي قلبت معناه الى الماضي، والاستفهام التقريري الذي يجعل المتلقي ـــ النبي موسى (عليه السلام) ـــ يعيش أجواء أحداث ذلك الماضي أي: تربيته ونشأته في قصر فرعون.وتتضح دلالة الزمن الماضي من سير السياقات في آيات القصص القرآني الآتية:
قوله تعالى: ﴿ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 31]، وقوله تعالى: ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ [البقرة: 36] ،وقوله تعالى : ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ 0 قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ 0 قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ [البقرة: 67 – 69]، نلحظ أن الفعل (قال) يمثل ” قرينة نطقت على طريقة الحكاية والحوار، وجاء بعدها من الأفعال ما اكتسب دلالتها من وظيفة المضي ” الدال على وقوع الخبر وتحققه.
والله تعالى اعلم واعز واجل وله الحمد وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ..