واقع.
7 محرم الحرام 1446هـ.
14 تموز 2024م.
دراسات في الوقف والابتداء (2) – الشيخ الدكتور باسم دخيل مراد العابدي.
التحكيم في المسابقات القرآنيّة وعلاقته بالتحكيم الشرعي والقضاء.
بعد أن انتهينا من تحديد المصطلحات واستعمالاتها نأتي على بحث التحكيم الشرعي والتحكيم العلمي وتحكيم المسابقات القرانية وعلاقة هذه كلها بالقضاء من جهة انطباق أحكام القضاء عليها مع النظر الى تشدد الروايات بمنع ممارسة القضاء إلا بشرائط خاصة لاتتوافر غالبا أو دائما في محكمي المسابقات القرآنية ؟
الحقيقة إنني لم أعثر – فيما استطعت من بحث وتنقيب- على بحث لفقيه تناول فيه التحكيم المسابقاتي لأثبت فقهيا انطباق أحكام القضاء عليه من وجوب وحرمة أو عدم انطباقها سوى ماهو مشهور من معنى التحكيم في أبعاده اللغوية والشرعية والقانونية فقد تعرض فقهاء الشريعة وفقهاء القانون للتحكيم من جهة كونه ملجأ ووسيلة لفكّ النزاعات سواء الاجتماعية أم التجارية , واكتسب عندهم الصفة الشرعية والقانونية , إلا أنهم ذهبوا الى أنّ التحكيم غير القضاء أو أنه في مرتبة أدنى منه , يقول الشهيد الاول : (القضاء قسمان: أحدهما: قضاء التعميم، وهو مشروط بإذن الامام والثاني: قضاء التحكيم، وهو سائغ وإن كان في البلد قاض).
وفصل الشوكاني (السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار: 818) بين القضاء وبين التحكيم فصلا تاما معللا ذلك بأن القضاء منصب يمنحه النبي صلى الله عليه وآله , أو الحاكم والخليفة إذ قال: (لم يتصدر أحد في زمن النبوة للقضاء إلا بأمره صلّى الله عليه و(آله) وسلم , ولا تصدّر أحد في أيام الخلفاء الراشدين للقضاء إلا بأمر من الخليفة , وأما التحكيم فهو باب آخر ليس من القضاء في شيء).
وعليه فالأصل في التحكيم أنه وسيلة لحل النزاعات بعد اتفاق طرفين أو اكثر على تسوية النزاع بينهم من غير اللجوء الى القضاء ثم أفيد منه في كل عملية فصل وتمييز ومن ذلك المسابقات القرآنية.
الأدلة على جواز التحكيم.
استدلوا على جواز التحكيم الشرعي بعدد من النصوص القرآنية , منها:
١. قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} (المائدة: 95).
قال ابن العربي في تفسير هذه الآية: (وهذا دليل على التحكيم)(أحكام القرآن: 3: 321).
٢. قوله تعالى: {وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرٗا}( النساء: 35).
وقد وصف بعض الباحثين(فهد عبد الله: نيل المرام شرح آيات الأحكام: 176) هذه الآية بأنها أصل في جواز التحكيم في سائر الحقوق.
فإذا دلت الآيات على جواز التحكيم الشرعي فالأولى جواز التحكيم في المسابقات القرآنية وغيرها مما لايتنافى مع الشريعة.
أمّأ وجه المقاربة بين التحكيم المعروف فقهيا والتحكيم في المسابقات عموما فلعله لايتسق كثيرا إلّا في الأشتراك اللفظي وبعض وجوه المعاني لأنّ الفقهاء ذكروا شرائط للتحكيم الشرعي لانجدها تنطبق على المحكّمين فيما هو معروف ومتداول اليوم في مجال العلوم والثقافة والفن والمسابقات المتنوعة , بل أن هذه الشروط غير مرعية في محكمي هذه الفعاليات , لاسيما أن بعض الفقهاء ومنهم الشهيد الأول قطعوا بأنّ شروط قاضي التحكيم هي شروط القاضي المنصوب أجمع من غير استثناء ؛ ومنها البلوغ والذكورة وطهارة المولد والعقل والعدالة وأهلية الإفتاء وغيرها.
ومن الواضح أنّ هذه الشروط التي ذكرها الفقهاء لاتنطبق على حكّام المسابقات بما يعني أن المسابقات القرآنية نوع من الممارسات التفاعلية المعنوية المندوبة التي اهتم الإسلام بها وشجّع عليها, وفيها يقول الشيخ مكارم الشيرازي: ( إنّ قسماً من هذه المسابقات جرت بمرأى من رسول الله ( صلى الله عليه وآله) , وأحياناً كانت تناط إِليه مهمة التحكيم والقضاء في هذه المسابقة، وربّما أعطى ناقته الخاصّة لبعض الصحابة للتسابق عليها . ( الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: (7: 149).
وعليه يمكن القول إن التحكيم الذي يجرى على وفق القوانين والقواعد االوضعية المعمول بها في المسابقات القرآنية وهي قوانين وقواعد تنظيمية ادارية و علمية وفنية ليس هو التحكيم٤ الشرعي الذي يقع تحت نظر الفقيه او الحاكم الإسلامي.
ولكن مع كون التحكيم من هذا النوع لايعد من التحكيم الشرعي إلا أنه لابعدم ضرورة رعاية االعدالة فيه ويمكن حملة على الإلزام كونه عقدا بين المحكم والجهة التي انتدبته للتحكيم فقد دلت الآيات والروايات على لزوم رعاية العهود والالتزام بالعقود ومنها قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).
التي استنبط منها الفقهاء قاعدة : ( أصالة اللزوم في العقود)
كما أن الرواية عن الامام علي عليه السلام تشدد على الالتزام بالعهود فهو سلام الله عليه يقول : (العهود قلائد في الأعناق الى يوم القيامة).
التحكيم القرآني بين العلم والفن.
من المسائل الجديرة بالبحث في التحكيم والتي تترتب عليها ثمرات مهمة مسألة جامعية التحكيم القرآني واشتماله على العلم والفن , أمّا جهة العلم فتتعلق بضرورة معرفة المحكّم بقواعد المادة العلمية وأصولها , فمحكم قواعد التجويد ينبغي أن يكون على دراية بالقواعد والأحكام التجويدية , وكذا محكّم الصوت والنغم ينبغي أن يكون عارفا بالعلوم النظرية للصوت والنغم ؛ ومثلهما محكم الوقف والابتداء فلايسوغ للمحكم أن يحكم في شيء لايفقهه , أما جهة الفن في تحكيم المسابقات القرآنية فيتعلق بالقدرة على المتابعة والربط بين جهات ثلاثة , هي:
١. القواعد العلمية والعلوم النظرية لمادة التحكيم.
٢. تلاوة القارئ.
٣. لوائح التحكيم.
فالمحكم الجيد والمحترف هو الذي يجري عملية الجمع والربط بين هذه المحاور الثلاثة بحرفية وسرعة واتقان.
وتظهر الثمرة من هذا البحث في عدم كفاية العلم وحده في مسالة التحكيم مالم تتوافر الشرائط الاخرى في المحكم وهذا يعني ان استاذ اللغة المتمرس لايستطيع أن يحكم في الوقف والابتداء مثلا اذا لم يتقن المحاور الاخرى والربط بين قواعده النحوية واللغوية وبين قواعد التحكيم وقوانينه معززا بسرعة البديهة والنباهة وتوظيفهما فنيّأ.
ثم يرد في هذا السياق ذاته سؤال حول وجوب اتصاف المحكّم بالمعرفة والتطبيق العملي أم عدم وجوبه؟
لقد اختلفت المدارس القرآنية وأساتذة القرآن الكريم في العالم الإسلامي في هذا الأمر -لاسيما في حفظ القرآن الكريم – وافترقوا الى طريقين
الأول: ذهب فريق الى أن المحكّم في الحفظ يجب أن يكون حافظا , ونادى بعض القرّاء بضرورة أن يكون محكّم التلاوة قارئا , وعلّلوا ذلك بفهم القارئ لإحساس قارئ مثله مما يزيد من قدرة المحكم على تشخيص الأفضل بين القراء.
الثاني: اما الفريق الآخر فقد ذهب الى عدم اشتراط اتصاف المحكم بالقراءة والحفظ ومعرفة التطبيقات العملية وضربوا لذلك أمثلة من أوساط متعددة , فنية , ورياضية , وعلمية , ومن هذا الرأي ماذكره الشيخ مكارم الشيرازي في تفسيره إذ قال: ( يجب الإلتفات إلى أنّه في كثير من الأحيان لا يستطيع شخص ما إنجاز عمل ما، ولكن عندما ينجزه الآخرون يتمكن هو من تشخيص الجيد من الرديء في ذلك العمل , وعلى سبيل المثال أنّ هناك أشخاصاً كثيرين ليسوا بشعراء، إلاّ أنّهم يتمكنون من تقييم أشعار شعراء كبار وتميزها عن الأشعار الفارغة التي ينظمها بعض ناظمي الشعر, وهناك أشخاص ليسوا برياضيين ولكنّهم يتمكنون من التحكيم بين الرياضيين، وانتخاب الجيد منهم).( الامثل: 15: 54).
والمختار عندنا هو التوسط فلا نقول بالوجوب في توافر المعرفة التطبيقية بأن يكون محكّم الصوت والنغم قارئا ومحكم الحفظ حافظا ؛ مما يتسبب بمنع بعض الكفاءات من ممارسة التحكيم .
نعم الأكمل توافر هذه الخصائص في المحكم لتعزيز ثقة القارئ به.