القرآن الكريم وموقفه من الجدل والمجادلين.
الشيخ الدكتور باسم دخيل العابدي.
من روائع القرآن الكريم إنه تناول بعض الظواهر الإجتماعية والخصائص البشرية ونبّه عليها ؛ ومنها ظاهرة الجدل لدى الإنسان فقد وردت في القرآن الكريم أكثر من (٢٥) آية تحدثت عن الجدل والمجادلين ؛ كما نزلت سورة كاملة باسم المجادلة ( بفتح الدال وكسرها).
وقد ورد اللفظ بصيغة الماضي والمضارع والأمر والنهي والمصدر ؛ وجاء أيضا بصيغ المخاطب والغائب والمفرد والجمع ؛ وقد جاءت مضامين الآيات حاكية عن الظاهرة سلبا وإيجابا إلا أن الجانب السلبي كان غالبا على الإستعمال القرآني للفظ الجدل وإليك بعض الصور:
أولا. موارد الجدل الممدوحة و المباحة :
١. الفئة التي تدعو الى الله وتشتغل على نشر الفضيلة والدفاع عن الحقيقة وتضطر الى الإصطدام بالفاسدين الذين يمتهنون الجدل فيضطر المؤمنون لمجادلتهم بعد نفاد الوسائل الأخرى معهم , إلّأ إنه مع ذلك جدل مقنن يستند الى وعي وموضوعية وكياسة وهو من باب ( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
٢. الفئة التي صادر الطواغيت والجبابرة والظالمون حقوقها الشخصية فهذه يسوغ لها اللجوء الى الجدل(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّـهِ وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).
٣. ذهب بعض المفسرين الى أن جدل النبي ابراهيم عليه السلام للملائكة لثنيهم عن إنزال العذاب بقوم لوط وهو ماذكره القرآن الكريم في قوله تعالى ( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) جدل ممدوح لأسباب مذكورة في التفاسير ؛ ولأن إبراهيم عليه السلام لايصدر منه مايخالف الشريعة فقد وصفته الآية الأخرى: (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ).
ثانيا. الجدل المذموم في القران ومصاديقه.
١. فئة من الناس تحترف الجدل وتستعمله أبشع استعمال وأغلظ صورة بسبب غلبة الجهل عليهم وفساد رأيهم ؛ وهؤلاء هم الذي يجادلون في الله تعالى ؛ وقد أشار القرآن الكريم الى هذه الفئة في آيات معروفة منها: قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّـهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيد) وقوله تعالى : (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّـهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ).
٢. فئة أخرى تجادل في الله ولكن ليس لأجل ذاتها ونفسها ومنفعتها وإنما تجادل نيابة عن غيرها ودفاعا عن مصالح الآخرين ومنافعهم وهذا ماحذر القرآن الكريم منه أيضا في قوله تعالى: ( وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) الأنعام: ١٢١.وهؤلاء أسوءحالا من الفئة الأولى.
٣. فئة أخرى تجادل في المسلّمات والبديهيّات وأشار القرآن الكريم الى هذه الفئة في قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّـهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ).
٤. هناك فئة من الناس تدافع عن الخونة وتجادل عنهم , وقد ذمّ القرآن الكريم هذه الفئة في قوله تعالى: ( وَ لا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً). وفي الآية نهي وتحريم التعامل مع الخونة والدفاع عنهم.
٥.إن المجادل الجاهل لايقتنع مهما سقت له من أدلّة وقرائن وبراهين يقول تعالى: ( وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).
٦.ان المجادل الجاهل أو المجادل المهووس بالجدل يستسيغ قلب الحقائق وينسب الجدل الى الآخر وينعته به 🙁 قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا).
٧. هناك من يجادل في الأحوال جميعها ولا يهتم بما يحيط به من وقائع وعلامات ودلالات : (وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّـهِ وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) .